الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32)} أي استفاقوا من غفلتهم ورجعوا على أنفسهم باللائمَة على بطرهم وإهمال شكر النعمة التي سيقت إليهم، وعلموا أنهم أُخذوا بسبب ذلك، قال تعالى: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} [الأعراف: 168]. ومن حِكم الشيخ ابن عطاء الله الإسكندري «مَن لَم يشكر النعم فقد تَعَرَّض لزوالها، ومن شكرها فقد قيَّدها بعِقالها». وأفادت (لَمَّا) اقتران جوابها بشرطها بالفور والبداهة. والمقصود من هذا التعريضُ للمشركين بأن يكون حالهم في تدارك أمرهم وسرعة إنابتهم كحال أصحاب هذه الجنة إذ بادروا بالندم وسألوا الله عوض خير. وإسناد هذه المقالة إلى ضمير {أصحاب الجنة} [القلم: 17] يقتضي أنهم قالوه جميعاً، أي اتفقوا على إدراك سبب ما أصابهم. ومعنى {إنا لضالون} أنهم علموا أنهم كانوا في ضلال أي عن طريق الشكر، أي كانوا غير مهتدين وهو كناية عن كون ما أصابهم عقاباً على إهمال الشكر، فالضلال مجاز. وأكَّدوا الكلام لتنزيل أنفسهم منزلة من يشك في أنهم ضالون طريق الخير لقرب عهدهم بالغفلة عن ضلالهم ففيه إيذان بالتحسر والتندم. و {بل نحن محرومون} إضراب للانتقال إلى ما هو أهم بالنظر لحال تبييتهم إذ بيَتوا حرمان المساكين من فضول ثمرتهم فكانوا هم المحرومين من جميع الثمار، فالحرمان الأعظم قد اختص بهم إذ ليس حرمان المساكين بشيء في جانب حرمانهم. والكلام يفيد ذلك إما بطريق تقديم المسند إليه بأن أُتي به ضميراً بارزاً مع أن مقتضى الظاهر أن يكون ضميراً مستتراً في اسم المفعول مقدَّراً مؤخراً عنه لأنه لا يتصور إلاّ بعد سماع متحمِّله. فلما أبرز الضمير وقُدم كان تقديمه مؤذناً بمعنى الاختصاص، أي القصر، وهو قصر إضافي، وهذا من مستتبعات التراكيب والتعويل على القرائن. ويحتمل أن يكون الضلال حقيقياً، أي ضلال طريق الجنة، أي قالوا: إنا أخطأنا الطريق في السير إلى جنتنا لأنهم توهموا أنهم شاهدوا جنة أخرى غير جنتهم التي عهدوها، قالوا ذلك تحيراً في أمرهم. ويكون الإِضراب إبطالياً، أي أبطلوا أن يكونوا ضَلّوا طريق جنتهم، وأثبتوا أنهم محرومون من خير جنتهم فيكون المعنى أنها هي جنتهم ولكنها هلكت فحرموا خيراتها بأن أتلفها الله. و {أوسطهم} أفضلهم وأقربهم إلى الخير وهو أحد الإِخوة الثلاثة. والوسط: يطلق على الأخْيَر الأفضللِ، قال تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسَطاً} [البقرة: 143]، وقال: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوُسطى} [البقرة: 238] ويقال هو من سِطَة قومه، وأعطني من سِطَة مالِك. وحكي هذا القول بدون عاطف لأنه قول في مَجرى المحاورة جواباً عن قولهم {بل نحن محرومون} قاله لهم على وجه توقيفهم على تصويب رأيه وخَطل رأيهم. والاستفهام تقريري و{لولا} حرف تحضيض. والمراد ب {تسبحون} تنزيه الله عن أن يُعصى أمره في شأن إعطاء زكاة ثمارهم. وكان جوابهم يتضمن إقراراً بأنه وعظهم فعصوه ودلوا على ذلك بالتسبيح حين ندمِهم على عدم الأخذ بنصيحته فقالوا: {سبحان ربّنا إنا كنا ظالمين} أرادوا إجابة تقريره بإقرار بتسبيح الله عن أن يُعصى أمره في إعطاء حق المساكين فإن من أصول التوبة تدارك ما يمكن تداركه، واعترافهم بظلم المساكين من أصول التوبة لأنه خبر مستعمل في التندم، والتسبيح مقدمة الاستغفار من الذنب قال تعالى: {فسبح بحمد ربّك واستغفره إنه كان تواباً} [النصر: 3]. وجملة {إنا كنا ظالمين} إقرار بالذنب، والتأكيد لتحقيق الإِقرار والاهتمام به. ويفيد حرفُ (إنّ) مع ذلك تعليلاً للتسبيح الذي قبله. وحذف مفعول {ظالمين} ليعم ظلمهم أنفسهم بما جرَّوه على أنفسهم من سلب النعمة، وظلم المساكين بمنَعهم من حقهم فى المال. وجرت حكاية جوابهم على طريقة المحاورة فلم تعطف وهي الطريقة التي نبّهنا عليها عند قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} في سورة البقرة (30). ولما استقرّ حالهم على المشاركة في منع المساكين حقَّهم أخذَ بعضهم يلوم بعضاً على ما فرط من فعلهم: كل يلوم غيره بما كان قد تلبس به في هذا الشأن من ابتكار فكرة منع المساكين ما كان حقاً لهم من حياة الأب، ومن الممالاة على ذلك، ومن الاقتناع بتصميم البقية، ومن تنفيذ جميعهم ذلك العزم الذميم، فصوَّر قولُه: فأقبلَ بعضهم على بعض يتلاومون} هذه الحالة والتقاذفَ الواقع بينهم بهذا الإِجمال البالغ غاية الإِيجاز، ألا ترى أن إقبال بعضهم على بعض يصور حالة تشبه المهاجمة والتقريع، وأن صيغة التلاوم مع حذف متعلق التلاوم تصوّر في ذهن السامع صوراً من لوم بعضهم على بعض. وقد تلقى كل واحد منهم لوم غيره عليه بإحقاق نفسه بالملامة وإشراك بقيتهم فيها فقال كل واحد منهم: {يا ويلنا إنّا كنّا طاغين} إلى آخره، فأسند هذا القول إلى جميعهم لذلك. فجملة {قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين} إلى آخرها يجوز أن تكون مبينة لجملة {يتلاومون،} أي يلوم بعضهم بعضاً بهذا الكلام فتكون خبراً مستعملاً في التقريع على طريقة التعريض بغيره والإِقرار على نفسه، مع التحسر والتندم بما أفاده {يا ويلنا.} وذلك كلام جامع للملامة كلها ولَم تعطف الجملة لأنها مبينة. ويجوز أن تكون جوابَ بعضهم بعضاً عن لومه غيره، فكما أجمعوا على لوم بعضهم بعضاً كذلك أجمعوا على إجابة بعضهم بعضاً عن ذلك الملام فقال كل مَلُوم للائِمِه {يا ويلنا إنا كنّا طاغين} الخ جواباً بتقرير ملامه والاعتراف بالذنب ورجاء العفو من الله وتعويضِهم عن جنتهم خيراً منها إذا قبل توبتهم وجعل لهم ثواب الدنيا مع ثواب الآخرة، فيكون ترك العطف لأن فعل القول جرى في طريقة المحاورة. والإِقبال: حقيقته المجيء إلى الغير من جهة وجهه وهو مشتق من القُبُل وهو ما يبدو من الإِنسان من جهة وجهه ضد الإِدبار، وهو هنا تمثيل لحال العناية باللَّوم. واللوم: إنكار متوسط على فعل أو قوللٍ وهو دون التوبيخ وفوق العتاب، وتقدم عند قوله تعالى: {فإنهم غير مَلومين} في سورة المؤمنين (6). والطغيان: تجاوز الحدّ المتعارف في الكِبْر والتعاظم والمعنى: إنا كنا طاغين على حدود الله. ثم استأنفوا عن ندامتهم وتوبتهم رجاءَهم من الله أن يتوب عليهم فلا يؤاخذهم بذنبهم في الآخرة ولا في الدّنيا فيمحوَ عقابه في الدنيا محواً كاملاً بأن يعوضهم عن جنتهم التي قدر إتلافها بجنة أخرى خيراً منها. وجملة إنا إلى ربّنا راغبون} بدل من جملة الرجاء، أي هو رجاء مشتمل على رغبة إليه بالقبول والاستجابة. والتأكيد في {إنا إلى ربّنا راغبون} للاهتمام بهذا التوجه. والمقصود من الإِطناب في قولهم بعد حلول العذاب بهم تلقين الذين ضرب لهم هذا المثل بأن في مكنتهم الإِنابة إلى الله بنبذ الكفران لنعمته إذ أشركوا به من لا إنعام لهم عليه. روي عن ابن مسعود أنه قال: بلغني أنهم أخلصوا وعرف الله منهم الصدقَ فأبدلهم جنة يقال لها: الحَيَوان، ذات عنب يُحمَل العنقودُ الواحد منه على بغل. وعن أبي خالد اليماني أنه قال: دخلت تلك الجنة فرأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم. وقرأ الجمهور {أن يبْدِلنا} بسكون الموحدة وتخفيف الدال. وقرأه نافع وأبو عمرو وأبو جعفر {يُبَدِّلَنا} بفتح الموحدة وتشديد الدال وهما بمعنى واحد. قال ابن الفرس في «أحكام القرآن»: استدل بهذه الآية أبو محمد عبد الوهاب على أن من تعمد إلى نقص النصاب قبل الحول قصداً للفرار من الزكاة أو خالط غيره، أو فارقه بعد الخلطة فإن ذلك لا يسقط الزكاة عنه خلافاً للشافعي. ووجه الاستدلال بالآية أن أصحاب الجنة قصدوا بجذ الثمار إسقاط حق المساكين فعاقبهم الله بإتلاف ثمارهم.
{كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)} رجوع إلى تهديد المشركين المبدوء من قوله: {إنا بلوناهم} [القلم: 17]، فالكلام فذلكة وخلاصة لما قبله وهو استئناف ابتدائي. والمشار إليه باسم الإشارة هو ما تضمنته القصة من تلف جنتهم وما أحسوا به عند رؤيتها على تلك الحالة، وتندمهم وحسرتهم، أي مثل ذلك المذكور يَكون العذاب في الدنيا، فقوله: {كذلك} مسند مقدم و{العذاب} مسند إليه، وتقديم المسند للاهتمام بإحضار صورته في ذهن السامع. والتعريف في {العذاب} تعريف الجنس وفيه توجيه بالعهد الذهني، أي عذابكم الموعد مثل عذاب أولئك والمماثلة في إتلاف الأرزاق والإِصابة بقطع الثمرات. وليس التشبيه في قوله: {كذلك العذاب} مثل التشبيه في قوله: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} [البقرة: 143]، ونحوه ما تقدم في سورة البقرة بل ما هنا من قبيل التشبيه المتعارف لوجود ما يصلح لأن يكون مشبهاً به العذابُ وهو كون المشبه به غير المشبه، ونظيره قوله تعالى: {وكذلك أخْذُ ربّك إذا أخَذَ القرى وهي ظالمة} [هود: 102] بخلاف ما في سورة البقرة فإن المشبه به هو عين المشبه لقصد المبالغة في بلوغ المشبه غاية ما يكون فيه وجه الشبه بحيث إذا أريد تشبيهه لا يلجأ إلاّ إلى تشبيهه بنفسه فيكون كناية عن بلوغه أقصى مراتب وجه الشبه. والمماثلةُ بين المشبه والمشبه به مماثلة في النوع وإلاّ فإن ما تُوعدوا به من القحط أشد مما أصاب أصحاب الجنة وأطولُ. وقوله {ولعذاب الآخرة أكبر} دال على أن المراد بقوله: {كذلك العذاب} عذاب الدنيا. وضمير {لو كانوا يعلمون} عائد إلى ما عاد إليه ضمير الغائب في قوله: {بلوناهم} [القلم: 17]، وهم المشركون فإنهم كانوا ينكرون عذاب الآخرة فهددوا بعذاب الدنيا، ولا يصح عوده إلى {أصحاب الجنة} [القلم: 17] لأنهم كانوا مؤمنين بعذاب الآخرة وشدته.
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34)} استئناف بياني لأن من شأن ما ذكر من عذاب الآخرة للمجرمين أن ينشأ عنه سؤال في نفس السامع يقول: فما جزاء المتقين؟ وهو كلام معترض بين أجزاء الوعيد والتهديد وبين قوله: {سنسمه على الخرطوم} [القلم: 16] وقوله: {كذلك العذاب} [القلم: 33]. وقد أشعر بتوقع هذا السؤال قوله بعده: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} [القلم: 35] كما سيأتي. وتقديم المسند على المسند إليه للاهتمام بشأن المتقين ليسبق ذكرُ صفتهم العظيمة ذكْرَ جزائها. واللام للاستحقاق. و{عند} ظرف متعلق بمعنى الكون الذي يقتضيه حرف الجر، ولذلك قُدم متعلَّقُه معه على المسند إليه لأجل ذلك الاهتمام. وقد حصل من تقديم المسند بما معه طولٌ يثير تشويق السامع إلى المسند إليه. والعِندية هنا عندية كرامةٍ واعتناء. وإضافة {جنات} إلى {النعيم} تفيد أنها عُرفت به فيشار بذلك إلى ملازمة النعيم لها لأن أصل الإِضافة أنها بتقدير لام الاستحقاق ف {جنات النعيم} مفيد أنها استحَقها النعيم لأنها ليس في أحوالها إلاّ حال نعيم أهلها، فلا يكون فيها ما يكون في جنات الدّنيا من المتاعب مثل الحَرّ في بعض الأوقات أو شدة البرد أو مثل الحشرات والزنانير، أو ما يؤذي مثل شوك الأزهار والأشجار وروث الدواب وذرق الطير.
{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} فاء التفريع تقتضي أن هذا الكلام متفرع على ما قبله من استحقاق المتقين جنات النعيم، ومقابلته بتهديد المشركين بعذاب الدّنيا والآخرة، ولكن ذلك غير مصرح فيه بما يناسب أن يتفرع عليه هذا الإنكار والتوبيخ فتعيَّن تقدير إنكار من المعرض بهم ليتوجه إليهم هذا الاستفهام المفرع، وهو ما أشرنا إليه آنفاً من توقع أو وقوعَ سؤال. والاستفهام وما بعده من التوبيخ، والتخطئة، والتهكم على إدلالهم الكاذب، مؤذن بأن ما أنكر عليهم ووبخوا عليه وسُفهوا على اعتقاده كان حديثاً قد جرى في نواديهم أو استسخروا به على المسلمين في معرض جحود أن يكون بَعث، وفرضهم أنه على تقدير وقوع البعث والجزاء لا يكون للمسلمين مزية وفضل عند وقوعه. وعن مقاتل لما نزلت آية {إن للمتقين عند ربّهم جنات النعيم} [القلم: 34] قالت قريش: إن كان ثمة جنة نعيم فلنا فيها مثل حظنا وحظهم في الدّنيا، وعن ابن عباس أنهم قالوا: إنا نعطى يومئذٍ خيراً مما تُعطون فنزل قوله: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} الآية. والهمزة للاستفهام الإِنكاري، فرع إنكار التساوي بين المسلمين والكافرين على ما سبق من اختلاف جزاء الفريقين فالإِنكار متسلط على ما دار بين المشركين من القول عند نزول الآية السابقة أو عند نزول ما سبقها من آي القرآن التي قابلت بين جزاء المؤمنين وجزاء المشركين كما يقتضيه صريحاً قوله: {ما لكم كيف تحكمون} إلى قوله: {إن لكم لما تحكمون} [القلم: 39]. وإنكار جعل الفريقين متشابهين كناية عن إعطاء المسلمين جزاء الخير في الآخرة وحرمان المشركين منه، لأن نفي التساوي وارد في معنى التضاد في الخير والشر في القرآن وكلام العرب قال تعالى: {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون} [السجدة: 18]، وقال: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} [الحشر: 20]، وقال: {أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} [ص: 28] وقال السموأل أو الحارثي: سَلي إن جَهِلْتتِ الناسَ عنّا وعنهمُ *** فليس سواءً عالم وجهول وإذا انتفى أن يكون للمشركين حظ في جزاء الخير انتفى ما قالوه من أنهم أفضل حظاً في الآخرة من المسلمين كما هو حالهم في الدّنيا بطريق فحوى الخطاب. وقوله: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} كلام موجه إلى المشركين وهم المقصود ب {المجرمين،} عُبر عنهم بطريق الإِظهار دون ضمير الخطاب لما في وصف {المجرمين} من المقابلة ليكون في الوصفين إيماء إلى سبب نفي المماثلة بين الفريقين. فلذلك لم يكن ضمير الخطاب في قوله: {ما لكم كيف تحكمون} التفاتاً عن ضمائر الغيبة من قوله: {ودُّوا لو تدهن فيدهنون} [القلم: 9] وقوله {إنا بلوناهم} [القلم: 17]. وإنما تغير الضمير إلى ضمير الخطاب تبعاً لتغير توجيه الكلام، لأن شرط الالتفات أن يتغير الضمير في سياق واحد. و {ما لكم} استفهام إنكاري لحالة حكمهم، ف {ما لكم} مبتدأ وخبر وقد تقدم في قوله تعالى: {قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله} في سورة البقرة (246). وكيف تحكمون} استفهام إنكاري ثان في موضع الحال من ضمير {لكم،} أي انتفى أن يكون لكم شيء في حال حكمكم، أي فإن ثبت لهم كان منكراً باعتبار حالة حكمهم. والمعنى: لا تحكمون أنكم مساوون للمسلمين في جزاء الآخرة أو مفضلون عليهم.
{أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)} إضراب انتقال من توبيخ إلى احتجاج على كذبهم. والاستفهام المقدر مع {أم} إنكار لأن يكون لهم كتاب إنكاراً مبنياً على الفرض وإن كانوا لم يدّعوه. وحاصل هذا الانتقال والانتقالات الثلاثة بعده وهي {أم لكم أيمان علينا} [القلم: 39] الخ، {سلهم أيهم بذلك زعيم} [القلم: 40] {أم لهم شركاء} [القلم: 41] الخ أن حكمكم هذا لا يخلو من أن يكون سنده كتاباً سماوياً نزل من لدنا، وإما أن يكون سنده عَهْداً منا بأنا نعطيكم ما تقترحون، وإما أن يكون لكم كفيل علينا، وأما أن يكون تعويلاً على نصر شركائكم. وتقديم {لكم} على المبتدأ وهو {كِتاب} لأن المبتدأ نكرة وتنكيره مقصود للنوعية فكان تقديم الخبر لازماً. وضمير {فيه} عائد إلى الحكم المفاد من قوله: {كيف تحكمون} [القلم: 36]، أي كتاب في الحكم. و (في) للتعليل أو الظرفية المجازية كما تقول ورد كتاب في الأمر بكذا أو في النهي عن كذا فيكون {فيه} ظرفاً مستقراً صفة ل {كتاب.} ويجوز أن يكون الضمير عائداً إلى {كتاب} ويتعلق المجرور بفعل {تدرسون} جعلت الدراسة العميقة بمزيد التبصر في ما يتضمنه الكتاب بمنزلة الشيء المظروف في الكتاب كما تقول: لنا درس في كتاب سيبويه. وفي هذا إدماج بالتعريض بأنهم أمِّيُّون ليسوا أهل كتاب وأنهم لما جاءَهم كتاب لهديهم وإلحاقهم بالأمم ذات الكتاب كفروا نعمته وكذبوه قال تعالى: {لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون} [الأنبياء: 10] وقال: {أو تقولوا لَوْ أنا أُنزل علينا الكتاب لكُنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربّكم وهدى ورحمة} [الأنعام: 157]. وجملة {إنّ لكم فيه لما تخيَّرون} في موضع مفعول {تدرسون} على أنها محكي لفظها، أي تدرسون هذه العبارة كما جاء قوله تعالى: {وتركنا عليه في الآخرين سلامٌ على نوح في العالمين} [الصافات: 78، 79] أي تدرسون جملة {إِنَّ لكم فيه لَما تَخيَّرون. ويكون فيه} توكيداً لفظياً لنظيرها من قوله: {فيه تدرسون،} قصد من إعادتها مزيد ربط الجملة بالتي قبلها كما أعيدت كلمة (من) في قوله تعالى: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سَكَراً} [النحل: 67] وأصله: تتخذون سَكَراً. و {تخيرون} أصله تتخيرون بتاءين، حذفت إحداهما تخفيفاً. والتخير: تكلف الخَير، أي تطلب ما هو في أخير. والمعنى: إن في ذلك الكتاب لكم ما تختارون من خير الجزاء.
{أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39)} {أم} للانتقال إلى دليل آخر وهو نفي أن يكون مستند زعمهم عهداً أخذوه على الله لأنفسهم أن يعاملهم يوم القيامة بما يحكمون به لأنفسهم، فالاستفهام اللازم تقديره بعد {أم} إنكاري و{بالغة} مؤكَّدة. وأصل البالغة: الواصلة إلى ما يُطلب بها، وذلك استعارة لمعنى مغلظة، شبهت بالشيء البالغ إلى نهاية سيره وذلك كقوله تعالى: {قل فللَّه الحجة البالغة} [الأنعام: 149]. وقوله: {علينا} صفة ثانية ل {أيمان} أي أقسمناها لكم لإِثبات حقكم علينا. و {إلى يوم القيامة} صفة ثالثة ل {أيمان،} أي أيمان مُؤبدة لا تَحلَّة منها فحصل من الوصفين أنها عهود مؤكدة ومستمرة طول الدّهر، فليس يومُ القيامة منتهى الأخذ بتلك الأيمان بل هو تنصيص على التأييد كما في قوله تعالى: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة} في سورة الأحقاف (5). ويتعلق إلى يوم القيامة} بالاستقرار الذي في الخبر في قوله: {لكم أيمان} ولا يحسن تعلقه ب {بالغة} تعلق الظرف اللغو لأنه يصير {بالغة} مستعملاً في معنى مشهور قريب من الحقيقة، ومحملُ {بالغة} على الاستعارة التي ذكرنا أجزل وجملة {إن لكم لَما تحكمون} بيان ل {أيمان،} أي أيمان بهذا اللفظ. ومعنى (ما تحكمون) تأمرون به دون مراجَعة، يقال: نزلوا على حكم فلان، أي لم يعينوا طِلبة خاصة ولكنهم وكلوا تعيين حقهم إلى فلان، قال خَطاب أو حطان بن المُعلَّى: أنزلني الدّهر على حكمه *** من شامخخٍ عاللٍ إلى خفض أي دون اختيار لي ولا عمل عملته فكأنني حكمت الدّهر فأنزلني من معاقلي وتصرف فيَّ كما شاء. ومن أقوالهم السائرة مسرى الأمثال «حُكْمُكَ مُسَمَّطاً» (بضم الميم وفتح السين وفتح الميم الثانية مشددة) أي لك حكمك نافذاً لا اعتراض عليك فيه. وقال ابن عَثمة: لك المِرباع منها والصفايا *** وحكْمُك والنشيطةُ والفُضول {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40)} استئناف بياني عن جملة {أم لكم أيمان علينا بالغة} [القلم: 39]، لأن الأيمان وهي العهود تقتضي الكفلاء عادة قال الحارث بن حِلِّزة: واذكُروا حِلف ذِي المَجاز وما قُدِّ *** م فيه العهودُ والكفلاء فلما ذُكر إنكار أن يكون لهم عهود، كُمل ذلك بأن يطلب منهم أن يعينوا من هم الزعماء بتلك الأيمان. فالاستفهام في قوله: {سلهم أيهم بذلك زعيم} مستعمل في التهكم زيادة على الإِنكار عليهم. والزعيم: الكفيل وقد جعل الزعيم أحداً منهم زيادة في التهكم وهو أن جعل الزعيم لهم واحداً منهم لعزتهم ومناغاتهم لكبرياء الله تعالى.
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)} {أم} إضراب انتقالي ثالث إلى إبطال مستند آخر مفروض لهم في سند قولهم: إِنا نعْطَى مثل ما يُعطَى المسلمون أو خيراً مما يُعطونه، وهو أن يُفرض أن أصنامهم تنصرهم وتجعل لهم حَظاً من جزاء الخير في الآخرة. والمعنى: بل أثبتت لهم، أي لأجلهم ونفعهم شركاءُ، أي شركاء لنا في الإلهية في زعمهم، فحذف متعلق {شركاء} لشهرته عندهم فصار شركاء بمنزلة اللقب، أي أم آلهتهم لهم فليأتوا بهم لينفعوهم يوم القيامة. واللام في {لهم} لام الأجل، أي لأجلهم بتقدير مضاف، أي لأجل نصرهم، فاللام كاللام في قول أبي سفيان يوم أحد «لنا العزى ولا عزى لكم». وتنكير {شركاء} في حيز الاستفهام المستعمل في الإِنكار يفيد انتفاء أن يكون أحد من الشركاء، أي الأصنام لهم، أي لنفعهم فيعم أصنام جميع قبائل العرب المشترك في عبادتها بين القبائل، والمخصوصةَ ببعض القبائل. وقد نقل أسلوب الكلام من الخطاب إلى الغيبة لمناسبة وقوعه بعد {سلْهُم أيهم بذلك زعيم} [القلم: 40]، لأن أخص الناس بمعرفة أحقّية هذا الإِبطال هو النبي صلى الله عليه وسلم وذلك يستتبع توجيهَ هذا الإِبطال إليهم بطريقة التعريض. والتفريع في قوله: {فليأتوا بشركائهم} تفريع على نفي أن تنفعهم آلهتهم، فتعين أن أمر {فليأتوا} أمر تعجيز. وإضافة {شركاء} إلى ضميرهم في قوله: {فليأتوا بشركائهم} لإِبطال صفة الشركة في الإلهية عنهم، أي ليسوا شركاء في الإلهية إلاّ عند هؤلاء فإن الإلهية الحق لا تكون نسبية بالنسبة إلى فريق أو قبيلة. ومثل هذا الإِطلاق كثير في القرآن ومنه قوله: {قل ادعوا شركاءكم ثم كِيدُون فلا تُنظرون} [الأعراف: 195].
{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)} يجوز أن يكون {يوم يُكشف} متعلقاً بقوله: {فليأتوا بشركائهم} [القلم: 41]، أي فليأتوا بالمزعومين يومَ القيامة، وهذا من حُسن التخلص إلى ذكر أهوال القيامة عليهم. ويجوز أن يكون استئنافاً متعلقاً بمحذوف تقديره: اذكُرْ يوم يُكشف عن ساق ويُدعون إلى السجود الخ للتذكير بأهوال ذلك اليوم. وعلى كلا الوجهين في تعلق {يوم} فالمراد باليوم يوم القيامة. والكشف عن ساق: مثَل لشدة الحال وصعوبة الخطب والهول، وأصله أن المرء إذا هلع أن يسرع في المشي ويشمر ثيابه فيكشف عن ساقه كما يقال: شمر عن ساعد الجد، وأيضاً كانوا في الروع والهزيمة تشمر الحرائر عن سوقهن في الهرب أو في العمل فتنكشف سوقهن بحيث يشغلهن هول الأمر عن الاحتراز من إبداء ما لا تبدينه عادةً، فيقال: كشفت عن ساقها أو شَمَّرت عن ساقها، أو أبْدت عن ساقها، قال عبد الله بن قيس الرقيات: كيف نوْمي على الفراش ولما *** تشملْ الشامَ غارةٌ شَعْواء تُذهل الشيخ عن بنيه وتبدي *** عن خِدَام العقيلة العذراء وفي حديث غزوة أحد قال أنس بن مالك: «انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولقد رأيت عائشة وأم سليم وأنهما لمشمّرتان أرى خَدَم سوقهمَا تنقلان القِرَب على متُونهما ثم تُفْرِغَانها في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها» الخ، فإذا قالوا: كشف المرء عن ساقه فهو كناية عن هول أصابه وإن لم يكن كشف ساقه. وإذا قالوا: كشف الأمر عن ساق، فقد مثلوه بالمرأة المروعة، وكذلك كشفت الحرب عن ساقها، كل ذلك تمثيل إذ ليس ثمة ساق قال حاتم: فتى الحرب عضّت به لحرب الحرب عضها *** وإن شمرت عن سَاقها الحرب شمَّرا وقال جد طرفة من الحماسة: كشفتْ لهم عن ساقها *** وبدا من الشر البَواح وقرأ ابن عباس {يوم تَكشف} بمثناة فوقية وبصيغة البناء للفاعل على تقدير تكشف الشدة عن ساقها أو تكشف القيامة، وقريب من هذا قولهم: قامت الحرب على ساق. والمعنى: يوم تبلغ أحوال الناس منتهى الشدة والروْع، قال ابن عباس: يكشف عن ساق: عن كرب وشدة، وهي أشد ساعة في يوم القيامة. وروى عبد بن حميد وغيره عن عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن هذا، فقال: «إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب»، أما سمعتم قول الشاعر: صبراً عَنَاقُ إنه لشِرْباقْ *** فقد سنّ لي قومُككِ ضربَ الأعناقْ وقامت الحرب بنا على ساق *** وقال مجاهد: {يكشف عن ساق}: شدّة الأمر. وجملة {ويُدْعون} ليس عائداً إلى المشركين مثل ضمير {إِنا بلوناهم} [القلم: 17] إذ لا يساعد قوله: {وقد كانوا يدعون إلى السجود} فإن المشركين لم يكونوا في الدنيا يُدْعَون إلى السجود. فالوجه أن يكون عائداً إلى غير مذكور، أي ويُدعَى مدعوون فيكون تعريضاً بالمنافقين بأنهم يحشرون مع المسلمين ويمتحن الناس بدعائهم إلى السجود ليتميز المؤمنون الخُلص عن غيرهم تَميز تشريف فلا يستطيع المنافقون السجود فيفتضح كفرهم، قال القرطبي عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود: فمن كان يعبد الله مخلصاً يخِرُّ ساجداً له ويبقى المنافقون لا يستطيعون كأنَّ في ظهورهم السفافيد اه. فيكون قوله تعالى: {ويدعون إلى السجود} إدماجاً لذكر بعض ما يحصل من أحوال ذلك اليوم. وفي «صحيح مسلم» من حديث الرؤية وحديث الشفاعة عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فيُكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلاّ أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد رياء إلاّ جعل الله ظهره طبقَة واحدة كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه " الحديث، فيصلح ذلك تفسيراً لهذه الآية. وقد اتبع فريق من المفسرين هذه الرواية وقالوا: يكشِف الله عن ساقه، أي عن مثل الرِجْل ليراها الناس ثم قالوا هذا من المتشابه، على أنه روي عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {عن ساقِ} قال يكشف عن نور عظيم يَخرون له سجداً. ورُويت أخبار أخرى ضعيفة لا جدوى في ذكرها. و {السجود} الذي يُدعون إليه: سجودُ الضراعة والخضوع لأجل الخلاص من أهوال الموقف. وعدم استطاعتهم السجود لسلب الله منهم الاستطاعة على السجود ليعلموا أنهم لا رجاء لهم في النجاة. والذي يدعوهم إلى السجود الملائكة الموكلون بالمحشر بأمر الله تعالى كقوله تعالى: {يَوم يدعو الداعي إلى شيء نكر إلى قوله: {مهطعين إلى الداعي} [القمر: 68]، أو يدعو بعضهم بعضاً بإلهام من الله تعالى، وهو نظير الدعوة إلى الشفاعة في الأثر المروي «فيقول بعضهم لبعض: لو استشفعنا إلى ربّنا حتى يريحنا من موقفنا هذا». وخشوع الأبصار: هيئة النظر بالعين بذلة وخَوف، استعير له وصف {خاشعة} لأن الخاشع يكون مطأطئا مختفياً. و {ترهقهم}: تحل بهم وتقترب منهم بحرص على التمكن منهم، رَهِقَ من باب فَرِح قال تعالى: {تَرْهَقُها قَتَرة} [عبس: 41]. وجملة {ترهقهم ذلة} حال ثانية من ضمير {يستطيعون. وجملة وقد كانوا يُدْعَوْن إلى السجود وهم سالمون} معترضة بين ما قبلها وما تفرع عنها، أي كانوا في الدّنيا يُدعون إلى السجود لله وحده وهم سالمون من مثل الحالة التي هم عليها في يوم الحشر. والواو للحال وللاعتراض. وجملة {وهم سالمون} حال من ضمير {يُدعون} أي وهم قادرون لا علة تعوقهم عنه في أجسادهم. والسلامة: انتفاء العلل والأمراض بخلاف حالهم يوم القيامة فإنهم مُلْجَأُون لعدم السجود.
{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)} الفاء لتفريع الكلام الذي عطفته على الكلام الذي قبله لكون الكلام الأول سبباً في ذكر ما بعده، فبعد أن استُوفي الغرض من موعظتهم ووعيدهم وتزييف أوهامهم أعقب بهذا الاعتراض تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله تكفل بالانتصاف من المكذبين ونصْره عليهم. وقوله: {فذرني ومن يكذب} ونحوه يفيد تمثيلاً لحال مفعول (ذر) في تعهده بأن يكفي مؤونة شيء دون استعانةٍ بصاحببِ المؤونةِ بحال من يرى المخاطب قد شرع في الانتصار لنفسه ورأى أنه لا يبلغ بذلك مبلغ مفعول (ذَرْ) لأنه أقدر من المعتدَى عليه في الانتصاف من المعتدي فيتفرغ له ولا يطلب من صاحب الحق إعانة له على أخذ حقه، ولذلك يؤتى بفعل يدل على طلب الترك ويؤتى بعده بمفعوللٍ معه ومنه قوله تعالى: {وذرني والمكذبين} [المزمل: 11] {ذَرني ومن خلقتُ وحيداً} [المدثر: 11] وقال السهيلي في «الروض الأنف» في قوله تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيداً} [المدثر: 11] فيه تهديد ووعيد، أي دعني وإياه فسترى ما أصنع وهي كلمة يقولها المغتاظ إذا اشتد غيظه وغضبه وكره أن يشفع لمن اغتاظ عليه فمعنى الكلام لا شفاعة في هذا الكافر. والواو واو المعية وما بعدها مفعول معه، ولا يصح أن تكون الواو عاطفة لأن المقصود: اتركني معهم. و {الحديث} يجوز أن يراد به القرآن وتسميته حديثاً لما فيه من الإِخبار عن الله تعالى، وما فيه من أخبار الأمم وأخبار المغيبات، وقد سمي بذلك في قوله تعالى: {فبأي حديث بعده يؤمنون} في سورة الأعراف (185) وقوله تعالى: {أفمِن هذا الحديث تعجبون وتضحكون} الآية في} [سورة النجم: 5960]، وقوله: {أفبهذا الحديث أنتم مدهنون} في سورة الواقعة (81). واسم الإِشارة على هذا للإِشارة إلى مقدر في الذهن مما سبق نزوله من القرآن. ويجوز أن يكون المراد بالحديث الإِخبار عن البعث وهو ما تضمنه قوله تعالى: {يوم يكشف عن ساق الآية} [القلم: 42]. ويكون اسم الإشارة إشارة إلى ذلك الكلام والمعنى: حسبك إيقاعاً بهم أن تكل أمرهم إليّ فأنَا أعلم كيف أنتصف منهم فلا تشغل نفسك بهم وتوكل عليَّ. ويتضمن هذا تعريضاً بالتهديد للمكذبين لأنهم يسمعون هذا الكلام. وهذا وعد للنبي صلى الله عليه وسلم بالنصر ووعيد لهم بانتقام في الدنيا لأنه تعجيل لتسلية الرسول. وجملة {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون،} بيان لمضمون {ذَرني ومن يكذّب بهذا الحديث} باعتبار أن الاستدراج والإِملاء يعقبهما الانتقام فكأنه قال: سنأخذهم بأعمالهم فلا تستبطئ الانتقام فإنه محقق وقوعه ولكن يؤخر لحكمة تقتضي تأخيره. والاستدراج: استنزال الشيء من دَرَجة إلى أخرى في مثل السُّلم، وكان أصل السين والتاء فيه للطلب أي محاولة التدرج، أي التنقل في الدَّرج، والقرينة تدل على إرادة النزول إذ التنقل في الدرَج يكون صعوداً ونزولاً، ثم شاع إطلاقه على معاملة حسنة لمُسيءٍ إلى إبَّان مقدرٍ عند حلوله عقابُه ومعنى {من حيث لا يعلمون} أن استدراجهم المفضي إلى حلول العقاب بهم يأتيهم من أحوال وأسباب لا يتفطنون إلى أنها مفضية بهم إلى الهلاك، وذلك أجلب لقوة حسرتهم عند حلول المصائب بهم، ف {مِن} ابتدائية، و{حيث} للمكان المجازي، أي الأسباب والأفعال والأحوال التي يحسبونها تأتيهم بخير فتنكشف لهم عن الضر، ومفعول {لا يعلمون} ضمير محذوف عائد إلى {حيث. وأُملي}: مضارع أمَلى، مقصوراً بمعنى أمْهَل وأخَّر وهو مشتق من المَلاَ مقصوراً، وهو الحِين والزمن، ومنه قيل لليللِ والنهار: المَلَوَان، فيكون أملى بمعنى طَوَّل في الزمان، ومصدره إملاء. ولام {لهم} هي اللام المسماة لام التبيين، وهي التي تُبين اتصال مدخولها بعامله لخفاءٍ فيه فإن اشتقاق فعل أمَلى من الملْوِ، وهو الزمان اشتقاق غيرُ بيّن لخفاء معنى الحَدَث فيه. ونون {سنستدرجهم} نون المتكلم المشارك، والمراد الله وملائكته الموكلون بتسخير الموجودات وربط أحوال بعضها ببعض على وجه يتم به مراد الله فلذلك جيء بنون المتكلم المشارك فالاستدراج تعلق تنجيزي لقدرةِ الله فيحصل بواسطة الملائكة الموكلين كما قال تعالى: {إذْ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتُوا الذين ءامنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق} الآية [الأنفال: 12]. وأما الإِملاء فهو علم الله بتأجيل أخْذِهم. وتعلُق العلم ينفرد به الله فلذلك جيء معه بضمير المفرد. وحصل في هذا الاختلاف تفنن في الضميرين. ونظير هذه الآية قوله في الأعراف (182 183): {والذين كذبُوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأُملي لهم إن كيدي متين} باعتبار أنهما وعد للنبيء بالنصر وتثبيت له بأن استمرار الكافرين في نعمة إنما هو استدراج وإملاء وضرب يشبه الكيد وأن الله بالغ أمره فيهم، وهذا كقوله: {لا يغرنَّك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل} [آل عمران: 196 197]. وموقع {إنَّ} موقع التسبب والتعليل كما تقدم عند قوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس} في سورة آل عمران (96). وإطلاق الكيد على إحسان الله لقوم مع إرادة إلحاق السوء بهم إطلاق على وجه الاستعارة لمشابهته فعل الكائد من حيث تعجيل الإِحسان وتعقيبه بالإِساءة.
{أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46)} إضراب آخر للانتقال إلى إبطال آخر من إبطال معاذيرهم في إعراضهم عن استجابة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المبتدئ من قوله: {ما لكم كيف تحكمون أم لكم كتاب} [القلم: 3637] {أم لكم أيمان} [القلم: 39] {أم لهم شركاء} [القلم: 41] فإنه بعد أن نفى أن تكون لهم حجة تؤيد صلاح حالهم، أو وعد لهم بإعطاء ما يرغبون، أو أولياء ينصرونهم، عطف الكلام إلى نفي أن يكون عليهم ضر في إجابة دعوة الإسلام، استقصاء لقطع ما يُحتمل من المعاذير بافتراض أن الرسول صلى الله عليه وسلم سألهم أجراً على هديه إياهم، فصدهم عن إجابته ثقل عزم المال على نفوسهم. فالاستفهام الذي تؤذن به {أم} استفهامٌ إنكار لفرض أن يكون ذلك مما يخامر نفوسهم فرضاً اقتضاه استقراء نواياهم من مواقع الإِقبال على دعوة الخير والرشد. والمَغْرَمُ: ما يفرض على المرء أداؤه من ماله لغيرِ عِوض ولا جناية. والمُثْقَل: الذي حُمل عليه شيء ثقيل، وهو هنا مجاز في الإِشفاق. والفاء للتفريع والتسبب، أي فيتسبب على ذلك أنك شققت عليهم فيكون ذلك اعتذاراً منهم عن عدم قبول ما تدعوهم إليه. و {مِن مغرم} متعلق ب {مثقلون،} و{من} ابتدائية، وهو ابتداء مجازي بمعنى التعليل، وتقديم المعمول على عامله للاهتمام بموجب المشقة قبل ذكرها مع الرعاية على الفاصلة.
{أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)} إضراب آخر انتقل به من مدارج إبطال مَعاذيرَ مفروضةٍ لهم أن يتمسكوا ببعضها تعلةً لإِعراضهم عن قبول دعوة القرآن، قطعاً لما عسى أن ينتحلوه من المعاذير على طريقة الاستقراء ومنع الخلو. وقد جاءَت الإِبطالات السالفة متعلقة بما يفرض لهم من المعاذير التي هي من قبيل مستندات من المشاهدات، وانتُقل الآن إلى إبطال من نوع آخر، وهو إبطال حجة مفروضة يستندون فيها إلى علم شيء من المعلومات المغيبات عن الناس. وهي مما استأثر الله بعلمه وهو المعبر عنه بالغَيْب، كما تقدم في قوله تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب} في سورة البقرة (3). وقد استقر عند الناس كلهم أن أمور الغيب لا يعلمها إلاّ الله أو من أطْلَع من عباده على بعضها. والكلام هنا على حذف مضاف، أي أعندهم علم الغيب كما قال تعالى: {أعنده علم الغيب فهو يرى} في سورة النجم (35). فالمراد بقوله عندهم الغيب} أنه حصل في علمهم ومكنتهم، أي بإطلاع جميعهم عليه أو بإبلاغ كبرائهم إليهم وتلقيهم ذلك منهم. وتقديم {عندهم} على المبتدأ وهو معرفة لإِفادة الاختصاص، أي صار علم الغيب عندهم لا عند الله. ومعنى {يكتبون}: يَفرضون ويعينون كقوله: {كتب عليكم القصاص في القَتلى} [البقرة: 178] وقوله: {كتاب الله عليكم} [النساء: 24]، أي فهم يفرضون لأنفسهم أن السعادة في النفور من دعوة الإِسلام ويفرضون ذلك على الدهماء من أتباعهم. ومجيء جملة {فهم يكتبون} متفرعة عن جملة {أم عندهم الغيب،} بناء على أن ما في الغيب مفروض كونه شاهداً على حكمهم لأنفسهم المشارِ إليه بقوله: {ما لكم كيف تحكمون} [القلم: 36] كما علمته آنفاً.
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)} تفريع على ما تقدم من إبطال مزاعم المشركين ومطاعنهم في القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم وما تبعه من تكفل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بعاقبة النصر، وذلك أن شدته على نفس النبي صلى الله عليه وسلم من شأنها أن تُدخل عليه يَأْساً من حصول رغبته ونجاح سعيه، ففرع عليه تثبيتهُ وحثه على المصابرة واستمراره على الهَدْي، وتعريفه بأن ذلك التثبيت يرفع درجته في مقام الرسالة ليكون من أولي العزم، فذكَّره بمثَل يونس عليه السلام إذْ استعجل عن أمر ربّه، فأدبه الله ثم اجتباه وتاب عليه وجعله من الصالحين تذكيراً مراداً به التحذير. والمراد بحكم الربّ هنا أمره وهو ما حُمله إياه من الإِرسال والاضطلاع بأعباء الدعوة. وهذا الحكم هو المستقرأ من آيات الأمر بالدعوة التي أولها {يا أيها المدثر قم فأنذر إلى قوله: {ولربك فاصبر} [المدثر: 17] فهذا هو الصبر المأمور به في هذه الآية أيضاً. ولا جرم أن الصبر لذلك يستدعي انتظار الوعد بالنصر وعدم الضجر من تأخره إلى أمده المقدر في علم الله. وصاحب الحوت: هو يونس بن متَّى، وقد تقدم ذكره عند قوله تعالى: {ووهبنا له إسحاق} إلي قوله: {ويونس} في سورة الأنعام (84 86). والصاحب: الذي يصحب غيره، أي يكون معه في بعض الأحوال أو في معظمها، وإطلاقه على يونس لأن الحوت التقمه ثم قذفه فصار (صاحبُ الحوت)} لقباً له لأن تلك الحالة معيَّة قوية. وقد كانت مؤاخذةُ يونس عليه السلام على ضجره من تكذيب قومه وهم أهل نِينَوى كما تقدم في سورة الصافات. و {إذْ} طرف زمان وهو وجملته متعلق باستقرار منصوب على الحال أي في حالة وقت ندائه ربّه، فإنه ما نادى ربّه إلاّ لإِنقاذه من كربه الذي وقع فيه بسبب مغاضبته وضجره من قومه، أي لا يكن منك ما يلجئك إلى مثل ندائه. والمكظوم: المحبوس المسدود عليه يقال: كظم الباب أغلقَه وكظَم النهر إذا سده، والمعنى: نادى في حال حبسه في بطن الحوت. وجيء بهذه الحال جملة اسمية لدلالتها على الثبات، أي هو في حبس لا يرجى لمثله سراح، وهذا تمهيد للامتنان عليه بالنجاة من مثل ذلك الحبس. وقوله: {لولا أن تداركه نعمة من ربّه لَنُبذ بالعراء} إلخ استئناف بياني ناشئ عن مضمون النهي من قوله: {ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى} إلخ لأنه يتضمن التحذير من الوقوع في كرب من قبيل كرب يونس ثم لا يدري كيف يكون انفراجه. و {أنْ} يجوز أن تكون مخففة من (أنَّ)، واسمها ضمير شأن محذوف، وجملة {تداركه نعمة من ربّه} خبرها. ويجوز أن تكون مصدرية، أي لولا تدارك رحمة من ربّه. والتدارك: تفاعل من الدرَك بالتحريك وهو اللحاق، أي أن يلحق بعضُ السائرين بعضاً وهو يقتضي تسابقهم وهو هنا مستعمل في مبالغة إدراك نعمة الله إياه. والنبذ: الطرح والترك. والعراء ممدوداً: الفضاء من الأرض الذي لا نبات فيه ولا بناء. والمعنى: لنبذهُ الحوت أو البحر بالفضاء الخالي لأن الحوت الذي ابتلعه من النوع الذي يُرضع فراخه فهو يقترب من السواحل الخالية المترامية الأَطراف خوفاً على نفسه وفراخه. والمعنى: أن الله أنعم عليه بأن أنبت عليه شجرة اليقطين كما في سورة الصافات. وأُدمج في ذلك فضل التوبة والضراعة إلى الله، وأنه لولا توبته وضراعته إلى الله وإنعام الله عليه نعمة بعدَ نعمة لقذفه الحوت من بطنه ميتاً فأخرجه الموج إلى الشاطئ فلكان مُثْلة للناظرين أو حيّاً منبوذاً بالعراء لا يجد إسْعافاً، أو لَنجا بعد لأي والله غاضب عليه فهو مذموم عند الله مسخوط عليه. وهي نعم كثيرة عليه إذ أنقذه من هذه الورطات كلها إنقاذاً خارقاً للعادة. وهذا المعنى طوي طياً بديعاً وأشير إليه إشارة بليغة بجملة {لولا أن تداركه نعمة من ربّه لنبذ بالعراء وهو مذموم. وطريقة المفسرين في نشر هذا المطوي أن جملة وهو مذموم} في موضع الحال وأن تلك الحال قيد في جواب {لَولا}، فتقدير الكلام: لولا أن تداركه نعمة من ربّه لنبذ بالعراء نبذاً ذميماً، أي ولكن يونس نبذ بالعراء غيرَ مذموم. والذي حملهم على هذا التأويل أن نبذه بالعراء واقع فلا يستقيم أن يكون جواباً للشرط لأن {لولا} تقتضي امتناعاً لوُجودٍ، فلا يكون جوابها واقعاً فتعين اعتبار تقييد الجواب بجملة الحال، أي انتفى ذمه عند نبذه بالعراء. ويلوح لي في تفصيل النظم وجه آخر وهو أن يكون جواب {لولا} محذوفاً دل عليه قوله {وهو مكظوم} مع ما تفيده صيغة الجملة الاسمية من تمكن الكظم كما علمت آنفاً، فتلك الحالة إذا استمرت لم يحصل نبذه بالعراء، ويكون الشرط ب {لولا} لاحقاً لجملة {إذ نادى وهو مكظوم}، أي لبقي مكظوماً، أي محبوساً في بطن الحوت أبداً، وهو معنى قوله في سورة الصافات (143 144) {فلولا أنه كان من المسبّحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون}، وتجعل جملة {لَنُبِذ بالعراء وهو مذموم} استئنافاً بيانياً ناشئاً عن الإِجمال الحاصل من موقع {لَولا}. واللام فيها لام القسم للتحقيق لأنه خارق للعادة فتأكيده لرفع احتمال المجاز. والمعنى: لقد نبذ بالعراء وهو مذموم. والمذموم: إمّا بمعنى المذنب لأن الذنب يقتضي الذمَّ في العاجل والعقاب في الآجل، وهو معنى قوله في آية الصافات (142) {فالتقمه الحوت وهو مُليم} وإِمّا بمعنى العيب وهو كونه عارياً جائعاً فيكون في معنى قوله: {فنبذناه بالعراء وهو سقيم} [الصافات: 145] فإن السقم عيب أيضاً. وتنكير {نعمة} للتعظيم لأنها نعمة مضاعفة مكررة. وفرع على هذا النفي الإِخبار بأن الله اجتباه وجعله من الصالحين. والمراد ب {الصالحين} المفضلون من الأَنبياء، وقد قال إبراهيم عليه السلام {ربّ هب لي حكماً وألحقني بالصالحين} [الشعراء: 83] وذلك إيماء إلى أن الصلاح هو أصل الخير ورفع الدرجات، وقد تقدم في قوله: {كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين} في سورة التحريم (10). قال ابن عباس: رد الله إلى يونس الوحي وشفعه في نفسه وفي قومه.
{وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)} عطف على جملة {فذرني ومن يكذب بهذا الحديث} [القلم: 44]، عرَّف الله رسوله صلى الله عليه وسلم بعض ما تنطوي عليه نفوس المشركين نحو النبي صلى الله عليه وسلم من الحقد والغيظ وإضمار الشر عندما يسمعون القرآن. والزلَق: بفتحتين زَلل الرجل من مَلاَسَةِ الأرض من طين عليها أو دهن، وتقدم في قوله تعالى: {فتُصْبِحَ صعيداً زلَقاً} في سورة الكهف (40). ولما كان الزلق يفضي إلى السقوط غالباً أطلق الزلق وما يشتق منه على السقوط والاندحاض على وجه الكناية، ومنه قوله هنا ليَزْلقونك،} أي يسقطونك ويصرعونك. وعن مجاهد: أيْ ينفذونك بنظرهم. وقال القرطبي: يقال زلق السهم وزهق، إذا نفذ، ولم أراه لغيره، قال الراغب قال يونس: لم يسمع الزلق والإِزلاق إلاّ في القرآن اه. قلت: وعلى جميع الوجوه فقد جعل الإِزلاق بأبصارهم على وجه الاستعارة المكنية، شبهت الأبصار بالسهام ورمز إلى المشبه به بما هو من روادفه وهو فعل (يزلقونك) وهذا مثل قوله تعالى: {إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا} [آل عمران: 155]. وقرأ نافع وأبو جعفر (يزلقونك) بفتح المثناة مضارع زلَق بفتح اللام يزلق متعدياً، إذا نحاه عن مكانه. وجاء {يكاد} بصيغة المضارع للدلالة على استمرار ذلك في المستقبل، وجاء فعل {سمعوا} ماضياً لوقوعه مع {لَمَّا} وللإِشارة إلى أنه قد حصل منهم ذلك وليس مجرد فرض. واللام في {ليزلقونك} لام الابتداء التي تدخل كثيراً في خبر {إن} المكسورة وهي أيضاً تفرق بين {إنْ} المخففة وبين (إنّ) النافية. وضمير {إنه لمجنون} عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حكاية لكلامهم بينهم، فمعاد الضمير كائن في كلام بعضهم، أو ليسَ للضمير معاد في كلامهم لأنه منصرف إلى من يتحدثون عنه في غالب مجالسهم. والمعنى: يقولون ذلك اعتلالاً لأنفسهم إذ لم يجدوا في الذكر الذي يسمعونه مدخلاً للطعن فيه فانصرفوا إلى الطعن في صاحبه صلى الله عليه وسلم بأنه مجنون لينتقلوا من ذلك إلى أن الكلام الجاري على لسانه لا يوثق به ليصرفوا دهماءهم عن سماعه، فلذلك أبطل الله قولهم: {إنه لمجنون} بقوله: {وما هو إلاّ ذكر للعالمين،} أي ما القرآن إلاّ ذكر للناس كلهم وليس بكلام المجانين، وينتقل من ذلك إلى أن الناطق به ليس من المجانين في شيء. والذكر: التذكير بالله والجزاء هو أشرف أنواع الكلام لأن فيه صلاح الناس. فضمير {هو} عائد إلى غير مذكور بل إلى معلوم من المقام، وقرينةُ السياق تُرجع كلَّ ضمير من ضميري الغيبة إلى معاده، كقول عباس بن مرداس: عُدْنا ولولا نحن أحدقَ جمعُهم *** بالمسلمين وأحرَزوا ما جمَّعوا أي لأحْرز الكفار ما جمَّعه المسلمون. وفي قوله: {ويقولون إنه لمجنون} مع قوله في أول السورة {ما أنت بنعمة ربّك بمجنون} [القلم: 2] محسن ردّ العجز على الصدر. وقوله: {وما هو إلاّ ذكر للعالمين} إبطال لقولهم: {إنه لمجنون} لأنهم قالوه في سياق تكذيبهم بالقرآن فإذا ثبت أن القرآن ذكْر بطَلَ أن يكون مبلّغه مجنوناً. وهذا من قبيل الاحتباك إذ التقدير: ويقولون إنه لمجنون وإِن القرآن كلام مجنون، وما القرآن إلاّ ذكر وما أنت إلاّ مُذكر.
{الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)} {الحاقة} صيغة فاعِل من: حقّ الشِيء إذا ثبت وقوعه، والهاء فيها لا تخلو عن أن تكون هاء تأنيث فتكون {الحاقة} وصفاً لموصوف مقدر مؤنث اللفظ، أو أن تكون هاء مصدر على وزن فاعلة مثل الكاذبة للكذب، والخاتمة للختم، والباقية للبقاء والطاغية للطغيان، والنافلة، والخاطئة، وأصلها تاء المرة، ولكنها لما أريد المصدر قُطع النظر عن المرة مثل كثير من المصادر التي على وزن فَعْلة غير مراد به المرة مثل قولهم ضَربة لاَزِب. فالحاقة إذْن بمعنى الحق كما يقال «مِن حاقِّ كذا»، أي من حقه. وعلى الوجهين فيجوز أن يكون المراد بالحاقّة المعنى الوصفي، أي حادثة تحق أو حَقٌّ يحق. ويجوز أن يكون المراد بها لَقباً ليوم القيامة، وروي ذلك عن ابن عباس وأصحابه وهو الذي درج عليه المفسرون فلقب بذلك «يوم القيامة» لأنه يوم محقق وقوعُه، كما قال تعالى: {وتنذِر يوم الجمع لا ريب فيه} [الشورى: 7]، أو لأنه تحق فيه الحقوق ولا يضاع الجزاء عليها، قال تعالى {ولا تُظلمون فتيلاً} [النساء: 49] وقال: {فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يَره} [الزلزلة: 78]. وإيثار هذه المادة وهذه الصيغة يسمح باندراج معان صالحة بهذا المقام فيكون ذلك من الإِيجاز البديع لتذهب نفوس السامعين كل مذهب ممكن من مذاهب الهول والتخويف بما يحق حلوله بهم. فيجوز أيضاً أن تكون {الحاقة} وصفاً لموصوف محذوف تقديره: الساعة الحاقة، أو الواقعة الحاقة، فيكون تهديداً بيوم أو وقعة يكون فيها عقاب شديد للمعرَّض بهم مثل يوم بدر أو وقعتِه وأن ذلك حق لا ريب في وقوعه؛ أو وصفاً للكلمة، أي كلمة الله التي حقت على المشركين من أهل مكة، قال تعالى: {كذلك حَقَّت كلمات ربّك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار} [غافر: 6]، أو التي حقّت للنبيء صلى الله عليه وسلم أنه ينصره الله، قال تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إِنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون فتولّ عنهم حتى حين} [الصافات: 171174]. ويجوز أن تكون مصدراً بمعنى الحق، فيصح أن يكون وصفاً ليوم القيامة بأنه حق كقوله تعالى: {واقترب الوعد الحق} [الأنبياء: 97]، أو وصفاً للقرآن كقوله: {إن هذا لهو القصص الحق} [آل عمران: 62]، أو أريد به الحق كله مما جاء به القرآن من الحق قال تعالى: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} [الجاثية: 29] وقال: {إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق} [الأحقاف: 30]. وافتتاح السورة بهذا اللفظ ترويع للمشركين. و {الحاقّة} مبتدأ و{مَا} مبتدأ ثان. و{الحاقّة} المذكورة ثانياً خبر المبتدأ الثاني والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول. و {ما} اسم استفهام مستعمل في التهويل والتعظيم كأنه قيل: أتدْري ما الحاقة؟ أي ما هي الحاقة، أيْ شيءٌ عظيم الحاقّةُ. وإعادة اسم المبتدأ في الجملة الواقعة خبراً عنه تقوم مقام ضميره في ربط الجملة المخبر بها. وهو من الإِظهار في مقام الإِضمار لقصد ما في الاسم من التهويل. ونظيره في ذلك قوله تعالى: {وأصحابُ اليمين ما أصحابُ اليمين} [الواقعة: 27]. وجملة {ومَا أدراك ما الحاقّة} يجوز أن تكون معترضة بين جملة {ما الحاقّة} وجملة {كذبت ثمود وعاد بالقارعة} [الحاقة: 4]، والواو اعتراضية. ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة {ما الحاقة. ومَا} الثانية استفهامية، والاستفهام بها مكنَّى به عن تعذر إحاطة علم الناس بكنه الحاقّة لأن الشيء الخارج عن الحد المألوف لا يتصور بسهولة فمن شأنه أن يُتساءل عن فهمه. والخطابُ في قوله: {وما أدراك} لغير معيَّن. والمعنى: الحاقة أمر عظيم لا تدركون كُنْهَهُ. وتركيب «مَا أدراك كذا» مما جرى مجرى المثل فلا يغير عن هذا اللفظ وهو تركيب مركب من {ما} الاستفهامية وفعل (أدرى) الذي يتعدى بهمزة التعدية إلى ثلاثة مفاعيل من باب أعلمَ وأرى، فصار فاعل فعله المجرد وهو (دَرى) مفعولاً أول بسبب التعدية. وقد علق فعل {أدراك} عن نصب مفعولين ب {ما} الاستفهامية الثانية في قوله: {مَا الحاقّة.} وأصل الكلام قبل التركيب بالاستفهام أن تقول: أدركْتُ الحاقّة أمراً عظيماً، ثم صار أدْركني فلان الحاقّة أمراً عظيماً. و {ما} الأولى استفهامية مستعملة في التهويل والتعظيم على طريقة المجاز المرسل في الحرف، لأن الأمر العظيم من شأنه أن يستفهم عنه فصار التعظيم والاستفهام متلازمين. ولك أن تجعل الاستفهام إنكارياً، أي لا يدري أحد كنه هذا الأمر. والمقصود من ذلك على كلا الاعتبارين هو التهويل. هذا السؤال كما تقول: علمت هل يسافر فلان. و {مَا} الثالثة علقت فعل {أدراك} عن العمل في مفعولين. وكاف الخطاب فيه خطاب لغير معين فلذلك لا يقترن بضمير تثنية أو جمع أو تأنيث إذا خوطب به غير المفرد المذكر. واستعمال {ما أدراك} غير استعمال {ما يدريك في قوله تعالى: {وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً} [الأحزاب: 63] وقوله: {وما يدريك لعل الساعة قريب} في سورة الشورى (17). روي عن ابن عباس: كل شيء من القرآن من قوله: ما أدراك} فقد أدرَاه وكل شيء من قوله: {وما يدريك} فقد طُوي عنه». وقد روي هذا أيضاً عن سفيان بن عيينة وعن يحيى بين سلاّم فإن صح هذا المروي فإن مرادهم أن مفعول {ما أدراك} محقق الوقوع لأن الاستفهام فيه للتهويل وأن مفعول {ما يدريك} غير محقق الوقوع لأن الاستفهام فيه للإِنكار وهو في معنى نفي الدراية. وقال الراغب: كل موضع ذُكر في القرآن {وما أدراك} فقد عقب ببيانه نحو {وما أدراك ماهيه نار حامية} [القارعة: 10 11]، {وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر} [القدر: 2 3]، {ثم ما أدراك ما يوم الدين يومَ لا تملك نفس لنفس شيئاً} [الانفطار: 18 19]، {وما أدراك ما الحاقّة كذبت ثمود وعاد بالقارعة} [الحاقة: 3 4]، وكأنه يريد تفسير ما نقل عن ابن عباس وغيره. ولم أرَ من اللغويين من وفَّى هذا التركيب حقه من البيان وبعضهم لم يذكره أصلاً.
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)} إن جعلتَ قوله: {ومَا أدراك ما الحاقّة} [الحاقة: 3] نهايةَ كلام فموقع قوله: {كذبت ثمود وعاد بالقارعة} وما اتصل به استئناف، وهو تذكير بما حل بثمود وعاد لتكذيبهم بالبعث والجزاء تعريضاً بالمشركين من أهل مكة بتهديدهم أن يحق عليهم مثل ما حل بثمود وعاد فإنهم سواء في التكذيب بالبعث وعلى هذا يكون قوله {الحاقّة} [الحاقة: 1] الخ توطئة له وتمهيداً لهذه الموعظة العظيمة استرهاباً لنفوس السامعين. وإن جعلتَ الكلام متصلاً بجملة {كذبت ثمود وعاد بالقارعة} وعيّنت لفظ {الحاقّة} [الحاقة: 1] ليوم القيامة وكانت هذه الجملة خبراً ثالثاً عن {الحاقّة} [الحاقة: 1]. والمعنى: الحاقة كذبت بها ثمود وعاد، فكان مقتضى الظاهر أن يؤتى بضمير {الحاقّة} [الحاقة: 1] فيقال: كذبت ثمودُ وعادٌ بها، فعدل إلى إظهار اسم (القارعة) لأن (القارعة) مرادفةالحاقة في أحد محملي لفظ {الحاقة} [الحاقة: 1]، وهذا كالبيان للتهويل الذي في قوله: {وما أدراك ما الحاقّة} [الحاقة: 3]. و (القارعة) مراد منها ما أريد ب {الحاقّة} [الحاقة: 1]. وابتدئ بثمود وعاد في الذكر من بين الأمم المكذبة لأنهما أكثر الأمم المكذبة شهرة عند المشركين من أهل مكة لأنهما من الأمم العربية ولأن ديارهما مجاورة شمالاً وجنوباً. والقارعة: اسم فاعل من قرعه، إذا ضربه ضرباً قوياً، يقال: قرع البعير. وقالوا: العبد يقرع بالعصا، وسميت المواعظ التي تنكسر لها النفس قوارعَ لما فيها من زجر الناس عن أعمال. وفي المقامة الأولى «ويقْرَع الأسماعَ بزواجر وعِظه»، ويقال للتوبيخ تقريع، وفي المثل «لا تُقرع له العصا ولا يُقلقل له الحصا»، ومورده في عامر بن الظرب العَدواني في قصة أشار إليها المتلمس في بيت. ف (القارعة) هنا صفة لموصوف محذوف يقدر لفظه مؤنثاً ليوافق وصفَه المذكور نحو الساعة أو القيامة. القارعةِ: أي التي تصيب الناس بالأهوال والأفزاع، أو التي تصيب الموجودات بالقَرع مثل دك الجبال، وخسف الأرض، وطَمس النجوم، وكسوف الشمس كسوفاً لا انجلاء له، فشبه ذلك بالقرع. ووصف {الساعة} [الأعراف: 187] أو {القيامة} [البقرة: 85] بذلك مجاز عقلي من إسناد الوصف إلى غير ما هو له بتأوُّللٍ لملابسته ما هو له إذ هي زمان القرع قال تعالى: {القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث} [القارعة: 14]. وهي ما سيأتي بيانها في قوله: {فإذا نفخ في الصور نفخةٌ واحدة} الآيات [الحاقة: 13]. وجيء في الخبر عن هاتين الأمتين بطريقة اللف والنشر لأنهما اجتمعتا في موجب العقوبة ثم فصل ذكر عذابهما.
{فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5)} ابتدئ بذكر ثمود لأن العذاب الذي أصابهم من قبيل القرع إذ أصابتهم الصواعق المسماة في بعض الآيات بالصيحة. والطاغية: الصاعقة في قول ابن عباس وقتادة: نَزلت عليهم صاعقة أو صواعق فأهلكتهم، لأن منازل ثمود كانت في طريق أهل مكة إلى الشام في رحلتهم فهم يرونها، قال تعالى: {فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا} [النمل: 52]، ولأن الكلام على مهلك عاد أنسب فأخر لذلك أيضاً. وإنما سميت الصاعقةُ أو الصيحة {بالطاغية} لأنها كانت متجاوزة الحال المتعارف في الشدة فشبه فعلها بفعل الطاغي المتجاوز الحد في العدوان والبطش. والباء في قول {بالطاغية} للاستعانة. و {ثمود}: أمة من العرب البائدة العاربة، وهم أنساب عاد. وثَمود: اسم جد تلك الأمة ولكن غلب على الأمة فلذلك منع من الصرف للعلمية والتأنيث باعتبار الأمة أو القبيلة. وتقدم ذكر ثمود عند قوله تعالى: {وإلى ثمود أخاهم صالحاً} في سورة الأعراف (73).
{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)} الصرصر: الشديدة يكون لها صوت كالصرير وقد تقدم عند قوله تعالى: {فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات} في سورة فصلت (16). والعاتية: الشديدة العَصف، وأصل العُتُوِّ والعُتِيِّ: شدة التكبر فاستعير للشيء المتجاوزِ الحدَّ المعتادَ تشبيهاً بالتكبر الشديد في عدم الطاعة والجري على المعتاد. والتسخير: الغصْب على عمل واستعير لتكوين الريح الصرصر تكويناً متجاوزاً المتعارف في قوة جنسها فكأنها مكرهة عليه. وعلق به عليهم} لأنه ضمن معنى أرسلها. و (حسوم) يجوز أن يكون جمع حاسم مثل قُعود جمع قاعد، وشهود جمع شاهد، غُلِّب فيه الأيام على الليالي لأنها أكثر عدداً إذ هي ثمانية أيام وهذا له معان: أحدها أن يكون المعنى: يتابع بعضها بعضاً، أي لا فصل بينها كما يقال: صيام شهرين متتابعين، وقال عبد العزيز بن زرارة الكلابي: ففرَّق بينَ بينِهمُ زمانٌ *** تتابع فيه أعوام حُسُومٌ قيل: والحسوم مشتق من حسْم الداءِ بالمكواة إذ يكوى ويُتابع الكي أيّاماً، فيكون إطلاقه استعارة، ولعلها من مبتكرات القرآن، وبيت عبد العزيز الكلابي من الشعر الإِسلامي فهو متابع لاستعمال القرآن. المعنى الثاني: أن يكون من الحَسم وهو القطع، أي حاسمة مستأصلة. ومنه سمي السيف حُساماً لأنه يقطع، أي حَسَمَتْهم فلم تُبققِ منهم أحداً، وعلى هذين المعنيين فهو صفة ل {سبع ليال وثمانية أيّام} أو حال منها. المعنى الثالث: أن يكون حسوم مصدراً كالشُكور والدخُول فينتصب على المفعول لأجله وعاملُه {سَخَّرها،} أي سخرها عليهم لاستئصالهم وقطع دابرهم. وكل هذه المعاني صالح لأن يذكر مع هذه الأيام، فإيثار هذا اللفظ من تمام بلاغة القرآن وإعجازه. وقد سمّى أصحاب المِيقات من المسلمين أياماً ثمانية منصَّفة بين أواخر فبراير وأوائل مارس معروفة في عادة نظام الجو بأن تشتد فيها الرياح غالباً، أيامَ الحُسوم على وجه التشبيه، وزعموا أنها تقابل أمثالها من العام الذي أصيبت فيه عاد بالرياح، وهو من الأوهام، ومن ذا الذي رصد تلك الأيام. ومن أهل اللغة من زعم أن أيام الحسوم هي الأيام التي يقال لها: أيامُ العَجُوز أو العَجُز، وهي آخر فصل الشتاء ويُعدها العرب خمسة أو سبعة لها أسماء معروفة مجموعة في أبيات تذكر في كتب اللغة، وشتان بينها وبين حُسوم عاد في العِدة والمُدة. وفرع على {سخرها عليهم} أنهم صاروا صَرعى كلهم يراهم الرائي لو كان حاضراً تلك الحالة. والخطاب في قوله: {فترى} خطاب لغير معين، أي فيرى الرائي لو كان راءٍ، وهذا أسلوب في حكاية الأمور العظيمة الغائبة تستحضر فيه تلك الحالة كأنها حاضرة ويُتخيل في المقام سامع حاضر شاهد مُهْلَكهم أو شَاهَدَهم بعدَه، وكلا المشاهدتين منتف في هذه الآية، فيعتبر خطاباً فرضياً فليس هو بالتفات ولا هو من خطاب غير المعين، وقريب منه قوله تعالى: {وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل} [الشورى: 45]، وقوله: {وإذا رأيتَ ثَمَّ رأيتَ نعيماً وملكاً كبيراً} [الإنسان: 20]، وعلى دقة هذا الاستعمال أهمل المفسرون التعرض له عدا كلمة للبيضاوي. والتعريف في {القومَ} للعهد الذِّكري، والقوم: القبيلة وهذا تصوير لهلاك جميع القبيلة. وضمير {فيها} عائد إلى الليالي والأيام. و {صرعى}: جمع صريع وهو الملقى على الأرض ميتاً. وشُبهوا بأعجاز نخل، أي أصول النخل، وعجز النخلة: هو الساق التي تتصل بالأرض من النخلة وهو أغلظ النخلة وأشدها. ووجه التشبيه بها أن الذين يقطعون النخل إذا قطعوه للانتفاع بأعواده في إقامة البيوت للسُقُف والعضادات انتقوا منه أصوله لأنها أغلظ وأملأ وتركوها على الأرض حتى تيبس وتزول رطوبتها ثم يجعلوها عَمَداً وأساطين. والنخل: اسمُ جمععِ نخلة. والخاوي: الخالي مما كان مالئاً له وحالاً فيه. وقوله: {خاويةٍ} مجرور باتفاق القراء، فتعين أن يكون صفة {نخل. ووصفُ نخل} بأنها {خاوية} باعتبار إطلاق اسم «النخل» على مكانه بتأويل الجنة أو الحديقة، ففيه استخدام. والمعنى: خالية من الناس، وهذا الوصف لتشويه المشبه به بتشويه مكانه، ولا أثر له في المشابهة وأحسنه ما كان فيه مناسبة للغرض من التشبيه كما في الآية، فإن لهذا الوصف وقعاً في التنفير من حالتهم ليناسب الموعظة والتحذير من الوقوع في مثل أسبابها، ومنه قول كعب بن زهير: لَذاكَ أهْيَبُ عندي إذْ أُكلمه *** وقيلَ إنَّك مَنسُوبٌ ومَسْؤول مِن خادرٍ من لُيُوثثِ الأسْدِ مسكَنه *** من بَطْن عَثَّرَ غِيلٌ دونَهُ غِيل الأبيات الأربعة، وقول عنترة: فتركتُه جَزَر السباععِ يَنُشْنَه *** يَقضِمْنَ حُسنَ بنانِه والمعصم {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)} تفريع عَلى مجموع قصتي ثمود وعاد، فهو فذلكة لما فصل من حال إهلاكهما، وذلك من قبيل الجمع بعد التفريق، فيكون في أول الآية جمع ثم تفريق ثم جمع وهو كقوله تعالى: {وأنه أهلك عاداً الأولى وثموداً فما أبقى} [النجم: 5051] أي فما أبقاهما. والخطاب لغير معين. والباقية: إما اسم فاعل على بابه، والهاء: إما للتأنيث بتأويل نفس، أي فما ترى منهم نفس باقية أو بتأويل فرقة، أي ما ترى فرقة منهم باقية. ويجوز أن تكون {باقية} مصدراً على وزن فَاعلة مثل ما تقدم في الحاقة، أي فما ترى لهم بقاء، أي هلكوا عن بكرة أبيهم. واللام في قوله: {لهم} يجوز أن تجعل لشبه الملك، أي باقية لأجل النفع. ويجوز أن يكون اللام بمعنى (مِن) مثل قولهم: سمعت له صراخاً، وقول الأعشى: تسمَع للحلي وسواساً إذا انصرفت *** كما استعانَ بريح عِشْرقٌ زَجِلُ وقول جرير: ونحن لكم يومَ القيامة أفضل *** أي ونحن منكم أفضل. ويجوز أن تكون اللام التي تنوى في الإِضافة إذا لم تكن الإِضافة على معنى (من). والأصل: فهل ترى باقيتَهم، فلما قصد التنصيص على عموم النفي واقتضى ذلك جلب (مِن) الزائدة لزم تنكير مدخول (من) الزائدة فأعطي حقُّ معنى الإِضافة بإظهار اللام التي الشأن أن تنوى كما في قوله تعالى: {بعثنا عليكم عباداً لنا} [الإسراء: 5] فإن أصله: عبادنا. وموقع المجرور باللام في موقع النعت ل {باقية} قُدم عليها فصار حالاً.
{وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10)} عطف على جملة {كذبت ثمود وعاد بالقارعة} [الحاقة: 4]. وقد جُمع في الذكر هنا عدةُ أمم تقدمت قبل بعثة موسى عليه السلام إجمالاً وتصريحاً، وخص منهم بالتصريح قوم فرعون والمؤتفكات لأنهم من أشهر الأمم ذكراً عند أهل الكتاب المختلطين بالعرب والنازلين بجوارهم، فمن العرب من يبلغه بعض الخبر عن قصتهم. وفي عطف هؤلاء على ثمود وعاد في سياق ذكر التكذيب بالقارعة إيماء إلى أنهم تشابهوا في التكذيب بالقارعة كما تشابهوا في المجيء بالخاطئة وعصيان رسل ربّهم، فحصل في الكلام احتباك. والمراد بفرعون فرعون الذي أرسل إليه موسى عليه السلام وهو (مِنفطاح الثاني). وإنما أسند الخِطْء إليه لأن موسى أرسل إليه ليُطلق بني إسرائيل من العبودية قال تعالى: {اذهب إلى فرعون إنه طغى} [النازعات: 17] فهو المؤاخذ بهذا العصيان وتبعه القبط امتثالاً لأمره وكذبوا موسى وأعرضوا عن دعوته. وشمل قوله: {ومَن قبله} أمَماً كثيرة منها قوم نوح وقوم إبراهيم. وقرأ الجمهور {ومن قَبله} بفتح القاف وسكون الباء. وقرأ أبو عمرو والكسائي ويعقوب بكسر القاف وفتح الباء، أي ومن كان من جهته، أي قومه وأتباعه. و {المؤتفكات}: قُرى لوط الثلاثُ، وأريد بالمؤتفكات سكانها وهم قوم لوط وخصوا بالذكر لشهرة جريمتهم ولكونهم كانوا مشهورين عند العرب إذ كانت قُراهم في طريقهم إلى الشام، قال تعالى: {وإنكم لتمرُّون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون} [الصافات: 137، 138] وقال: {ولقد أتوا على القرية التي أُمْطِرت مطَر السوء أفلم يكونوا يرونها} [الفرقان: 40]. ووصفت قرى قوم لوط ب {المؤتفكات} جمع مؤتفكة اسم فاعل ائتفك مُطاوع أفَكَه، إذا قلَبَه، فهي المنقلبات، أي قلبها قالب، أي خسف بها قال تعالى: {جعلنا عاليها سافلها} [هود: 82]. والخاطئة: إمّا مصدر بوزن فاعلة وهاؤه هاء المرة الواحدة فلما استعمل مصدراً قطع النظر عن المرة، كما تقدم في قوله: {الحاقة} [الحاقة: 1] فهو مصدر خَطِئ، إذا أذنب. والذنب: الخِطْء بكسر الخاء، وإِما اسم فاعل خَطِئ وتأنيثه بتأويل: الفعلة ذات الخِطْء فهاؤه هاء تأنيث. والتعريف فيه تعريف الجنس على كلا الوجهين، فالمعنى: جاء كل منهم بالذنب المستحق للعقاب. وفرع عنه تفصيل ذنبهم المعبر عنه بالخَاطئة فقال {فعصوا رسول ربّهم} وهذا التفريع للتفصيل نظير التفريع في قوله: {كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر} [القمر: 9] في أنه تفريع بيان على المبيَّن. وضمير (عصوا) يجوز أن يرجع إلى {فرعون} باعتباره رأس قومه، فالضمير عائد إليه وإلى قومه، والقرينة ظاهرة على قراءة الجمهور، وإما على قراءة أبي عمرو والكسائي فالأمر أظهر وعلى هذا الاعتبار في محل ضمير (عصوا) يكون المراد ب {رسول ربّهم} موسى عليه السلام. وتعريفه بالإِضافة لما في لفظ المضاف إليه من الإِشارة إلى تخطئتهم في عبادة فرعون وجعلهم إياه إلها لهم. ويجُوز أن يرجع ضمير (عصوا) إلى {فرعون ومَن قبله والمؤتفكات. ورسول ربّهم} هو الرسول المرسل إلى كل قوم من هؤلاء. فإفراد {رسول} مراد به التوزيع على الجماعات، أي رسول الله لكل جماعة منهم، والقرينة ظاهرة، وهو أجمل نظماً من أن يقال: فعصوا رسُل ربّهم، لما في إفراد {رسول} من التفنن في صيغ الكلم من جمع وإفراد تفادياً من تتابع ثلاثة جموع لأن صيغ الجمع لا تخلو من ثقل لقلة استعمالها وعكسه قوله في سورة الفرقان (37) {وقومَ نوح لمّا كذَّبوا الرُسل أغرقناهم}، وإنما كذبوا رسولاً واحداً، وقوله: {كذبت قوم نوح المرسلين} وما بعده في سورة الشعراء (105)، وقد تقدم تأويل ذلك في موضعه. والأخذ: مستعمل في الإِهلاك، وقد تقدم عند قوله تعالى: {أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} في سورة الأنعام (44) وفي مواضع أخرى. وأخْذَةً:} واحدة من الأخذ، فيراد بها أخذ فرعون وقومه بالغرق، كما قال تعالى: {فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر} [القمر: 42]، وإذا أعيد ضمير الغائب إلى {فرعون ومن قبله والمؤتفكات} كان إفراد الأخذة كإفراد {رسول ربّهم،} أي أخذنا كل أمة منهم أخذة. والرابية: اسم فاعل من ربَا يَربو إذا زاد فلما صيغ منه وزن فاعلة، قلبت الواو ياء لوقوعها متَحركة إثر كسرة. واستعير الرُّبُوّ هنا للشدة كما تستعار الكثرة للشدة في نحو قوله تعالى: {وادعوا ثبوراً كثيراً} [الفرقان: 14]. والمراد بالأخذة الرابية: إهلاك الاستئصال، أي ليس في إهلاكهم إبقاء قليل منهم.
|